سورة المؤمنون - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}
اعلم أنه سبحانه ادعى أمرين أحدهما: قوله: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} وهو كالتنبيه على أن ذلك من قول هؤلاء الكفار، فإن جمعاً منهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله والثاني: قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} وهو قولهم باتخاذ الأصنام آلهة، ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية، ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر الدليل المعتمد بقوله: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} والمعنى لانفرد على (ذلك) كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبد به، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزاً عن ملك الآخر، ولغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متميزة وهم متغالبون، وحيث لم تروا أثر التمايز في الممالك والتغالب، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء.
فإن قيل: {إِذاً} لا يدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله لذهب جزاء وجواباً؟ ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل، قلنا الشرط محذوف وتقديره ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} عليه، ثم إنه سبحانه نزه نفسه عن قولهم بقوله: {سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ} من إثبات الولد والشريك.
أما قوله: {عالم الغيب والشهادة} فقرئ بالجر صفة لله، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف، والمعنى أنه سبحانه هو المختص بعلم الغيب والشهادة، فغيره وإن علم الشهادة فلن يعلم معها الغيب، والشهادة التي يعلمها لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم، فلذلك قال: {فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ثم أمره سبحانه بالانقطاع إليه وأن يدعوه بقوله: {رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين} قال صاحب الكشاف: ما والنون مؤكدتان، أي إن كان ولا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، فلا تجعلني قريناً لهم ولا تعذبني بعذابهم، فإن قيل كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلنا يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه. وما أحسن قول الحسن في قول الصديق: وليتكم ولست بخيركم، مع أنه كان يعلم أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه، وإنما ذكر رب مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع.
أما قوله تعالى: {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون} ففيه قولان:
أحدهما: أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب ويضحكون منه، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد ويحتمل عذاباً في الدنيا مؤخراً عن أيامه عليه السلام، فلذلك قال بعضهم: هو في أهل البغى، وبعضهم في الكفار الذين قوتلوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم والثاني: أن المراد عذاب الآخرة.
أما قوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} فالمراد منه أن الأولى به عليه السلام أن يعامل به الكفار فأمر باحتمال ما يكون منهم من التكذيب وضروب الأذى، وأن يدفعه بالكلام الجميل كالسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه، وبين له أنه أعلم بحالهم منه عليه السلام وأنه سبحانه لما لم يقطع نعمه عنهم، فينبغي أن يكون هو عليه السلام مواظباً على هذه الطريقة، قال صاحب الكشاف قوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} [المؤمنون: 96] أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل، والمعنى الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الطاقة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء السيئة. وقيل هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل محكمة، لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة.


{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}
اعلم أنه سبحانه لما أدب رسوله بقوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} [المؤمنون: 96] أتبعه بما به يقوى على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين: أحدهما: من همزات الشياطين، والهمزات جمع الهمزة، وهو الدفع والتحريك الشديد، وهو كالهز والأز، ومنه مهماز الرائض، وهمزاته هو كيده بالوسوسة، ويكون ذلك منه في الرسول بوجهين:
أحدهما: بالوسوسة والآخر بأن يبعث أعداءه على إيذائه، وكذلك القول في المؤمنين، لأن الشيطان يكيدهم بهذين الوجهين، ومعلوم أن من ينقطع إلى الله تعالى ويسأله أن يعيذه من الشيطان، فإنه يجب أن يكون متذكراً متيقظاً فيما يأتي ويذر، فيكون نفس هذا الانقطاع إلى الله تعالى داعية إلى التمسك بالطاعة وزاجراً عن المعصية، قال الحسن كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة: «لا إله إلا الله ثلاثاً، الله أكبر ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفخه، فقيل يا رسول الله وما همزه؟ قال الموتة التي تأخذ ابن آدم أي الجنون الذي يأخذ ابن آدم قيل فما نفثه؟ قال الشعر قيل فما نفخه؟ قال الكبر».
وثانيها: قوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ} وفيه وجهان:
أحدهما: أن يحضرون عند قراءة القرآن لكي يكون متذكراً فيقل سهوه، وقال آخرون بل استعاذ بالله من نفس حضورهم لأنه الداعي إلى وسوستهم كما يقول المرء أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى إليه رجل أرقاً يجده فقال: «إذا أردت النوم فقل أعوذ بالله وبكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون».
أما قوله: {حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموت} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف حتى متعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أنه يستزله عن الحلم والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلفوا في قوله: {حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت} فالأكثرون على أنه راجع إلى الكفار وقال الضحاك كنت جالساً عند ابن عباس، فقال من لم يترك ولم يحج سأل الرجعة عند الموت، فقال واحد إنما يسأل ذلك الكفار فقال ابن عباس رضي الله عنهما أنا أقرأ عليك به قرآناً {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رزقناكم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 10] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت».
والأقرب هو الأول إذا عرف المؤمن منزلته في الجنة فإذا شاهدها لا يتمنى أكثر منها، ولولا ذلك لكان أدونهم ثواباً يغتم بفقد ما يفقد من منزلة غيره وأما ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت} فهو إخبار عن حال الحياة في الدنيا لا عن حال الثواب فلا يلزم على ما ذكرنا.
المسألة الثالثة: اختلفوا في وقت مسألة الرجعة فالأكثرون على أنه يسأل في حال المعاينة لأنه عندها يضطر إلى معرفة الله تعالى وإلى أنه كان عاصياً ويصير ملجأ إلى أنه لا يفعل القبيح بأن يعلمه الله تعالى أنه لو رامه لمنع منه، ومن هذا حاله يصير كالممنوع من القبائح بهذا الإلجاء فعند ذلك يسأل الرجعة، ويقول: {رَبِّ ارجعون * لَعَلّي أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ} وقال آخرون بل يقول ذلك عند معاينة النار في الآخرة، ولعل هذا القائل إنما ترك ظاهر هذه الآية لما أخبر الله تعالى في كتابه عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة لكن ذلك مما لا يمنع أن يكونوا سائلين الرجعة في حال المعاينة، والله تعالى يقول: {حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون} فعلق قولهم هذا بحال حضور الموت وهو حال المعاينة فلا وجه لترك هذا الظاهر.
المسألة الرابعة: اختلفوا في قوله سبحانه وتعالى: {ارجعون} من المراد به؟ فقال بعضهم: الملائكة الذين يقبضون الأرواح وهم جماعة فلذلك ذكره بلفظ الجمع، وقال آخرون بل المراد هو الله تعالى لأن قوله رب بمنزلة أن يقول يا رب وإنما ذكر بلفظ الجمع للتعظيم كما يخاطب العظيم بلفظه فيقول فعلنا وصنعنا وقال الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكم ***
ومن يقول بالأول يجعل ذكر الرب للقسم، فكأنه عند المعاينة قال بحق الرب ارجعون، وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: كيف يسألون الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة، ومن الدين أن لا رجعة؟
الجواب: أنه وإن كان كذلك فلا يمتنع أن يسألوه لأن الاستعانة بهذا الجنس من المسألة تحسن وإن علم أنه لا يقع فأما إرادته للرجعة فلا يمتنع أيضاً على سبيل ما يفعله المتمني.
السؤال الثاني: ما معنى قوله: {لَعَلّي أَعْمَلُ صالحا} أفيجوز أن يسأل الرجعة مع الشك؟
الجواب: ليس المراد بلعل الشك فإنه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطى ما سأل، بل هو مثل من قصر في حق نفسه وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير فيقول مكنوني من التدارك لعلي أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك، ويحتمل أيضاً أن الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين، فقد قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
السؤال الثالث: ما المراد بقوله فيما تركت؟
الجواب: قال بعضهم فيما خلفت من المال ليصير عند الرجعة مؤدياً لحق الله تعالى منه، والمعقول من قوله: {تَرَكْتُ} التركة وقال آخرون بل المراد أعمل صالحاً فيما قصرت فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق، وهذا أقرب كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه ويطيعوا في كل ما عصوا.
السؤال الرابع: ما المراد بقوله كلا؟
الجواب: فيه قولان:
أحدهما: أنه كالجواب لهم في المنع مما طلبوا، كما يقال لطالب الأمر المستبعد هيهات، روي أنه عليه السلام قال لعائشة رضي الله عنها: إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان لا بل قدوماً على الله، وأما الكافر فيقال له نرجعك فيقول ارجعون فيقال له إلى أي شيء ترغب إلى جمع المال أو غرس الغراس أو بناء البنيان أو شق الأنهار؟ فيقول لعلي أعمل صالحاً فيما تركت! فيقول فيقول الجبار كلا الثاني: يحتمل أن يكون على وجه الإخبار بأنهم يقولون ذلك وأن هذا الخبر حق فكأنه قال: حقاً إنها كلمة هو قائلها، والأقرب الأول.
أما قوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قائلها} ففيه وجهان:
الأول: أنه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه الثاني: أنه قائلها وحده ولا يجاب إليها ولا يسمع منه.
أما قوله تعالى: {وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فالبرزخ هو الحاجز والمانع كقوله في البحرين {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20] أي فهؤلاء صائرون إلى حالة مانعة من التلاقي حاجزة عن الاجتماع وذلك هو الموت، وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث، إنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.


{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)}
اعلم أنه سبحانه لما قال: {وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] ذكر أحوال ذلك اليوم فقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور} وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصور آلة إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم، جعله الله تعالى علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرن ينفخ فيه.
وثانيها: أن المراد من الصور مجموع الصور، والمعنى فإذا نفخ في الصور أرواحها وهو قول الحسن فكان يقرأ بفتح الواو والفتح والكسر عن أبي رزين وهو حجة لمن فسر الصور بجمع صورة.
وثالثها: أن النفخ في الصور استعارة والمراد منه البعث والحشر، والأول أولى للخبر وفي قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى} [الزمر: 68] دلالة على أنه ليس المراد نفخ الروح والإحياء لأن ذلك لا يتكرر.
أما قوله: {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} فمن المعلوم أنه سبحانه إذا أعادهم فالأنساب ثابتة لأن المعاد هو الولد والوالد، فلا يجوز أن يكون المراد نفي النسب في الحقيقة بل المراد نفي حكمه. وذلك من وجوه:
أحدها: أن من حق النسب أن يقع به التعاطف والتراحم كما يقال في الدنيا: أسألك بالله والرحم أن تفعل كذا. فنفى سبحانه ذلك من حيث إن كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب، وهكذا الحال في الدنيا لأن الرجل متى وقع في الأمر العظيم من الآلام ينسى ولده ووالده.
وثانيها: أن من حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا، وأن يسأل بعضهم عن كيفية نسب البعض، وفي الآخرة لا يتفرغون لذلك.
وثالثها: أن يجعل ذلك استعارة عن الخوف الشديد فكل امرئ مشغول بنفسه عن بنيه وأخيه وفصيلته التي تؤويه فكيف بسائر الأمور، قال ابن مسعود رضي الله عنه يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد ألا إن هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها أو أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} وعن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء ثم تلا {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34] وعن الشعبي قال: قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله، أما نتعارف يوم القيامة، أسمع الله تعالى يقول: {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} فقال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث مواطن تذهل فيها كل نفس؛ حين يرمي إلى كل إنسان كتابه، وعند الموازين، وعلى جسر جهنم».
وطعن بعض الملحدة فقال قوله: {وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} وقوله: {وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10] يناقض قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] وقوله: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45] الجواب: عنه من وجوه:
أحدها: أن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ففيه أزمنة وأحوال مختلفة فيتعارفون ويتساءلون في بعضها، ويتحيرون في بعضها لشدة الفزع.
وثانيها: أنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا بأنفسهم عن التساؤل، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا: {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} [يس: 52].
وثالثها: المراد لا يتساءلون بحقوق النسب.
ورابعها: أن قوله: {لاَ يَتَسَاءَلُونَ} صفة للكفار وذلك لشدة خوفهم.
أما قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها، واعلم أنه سبحانه قد بين أن بعد النفخ في الصور تكون المحاسبة، وشرح أحوال السعداء والأشقياء، وقيل لما بين سبحانه أنه ليس في الآخرة إلا ثقل الموازين وخفتها، وجب أن يكون كل مكلف لابد وأن يكون من أهل الجنة وأهل الفلاح أو من أهل النار فيبطل بذلك القول بأن فيهم من لا يستحق الثواب والعقاب أو من يتساوى له الثواب والعقاب، ثم إنه سبحانه شرح حال السعداء بقوله: {فَمَن ثَقُلَتْ موازينه فأولئك هُمُ المفلحون} وفي الموازين أقوال: أحدها: أنه استعارة من العدل.
وثانيها: أن الموازين هي الأعمال الحسنة فمن أتى بما له قدر وخطر فهو الفائز الظافر، ومن أتى بما لا وزن له كقوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَاءً حتى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39] فهو خالد في جهنم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال أي الصالحات التي لها وزن وقدر عند الله تعالى من قوله: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 105] أي قدراً.
وثالثها: أنه ميزان له لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات في أحسن صورة، والسيئات في أقبح صورة فمن ثقلت حسناته سيق إلى الجنة ومن ثقلت سيئاته فإلى النار، وتمام الكلام في هذا الباب قد تقدم في سورة الأنبياء عليهم السلام.
وأما الأشقياء فقد وصفهم الله تعالى بأمور أربعة: أحدها: أنهم خسروا أنفسهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وقيل امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب.
وثانيها: قوله: {فِي جَهَنَّمَ خالدون} ودلالته على خلود الكفار في النار بينة.
قال صاحب الكشاف: {فِي جَهَنَّمَ خالدون} بدل من خسروا أنفسهم أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف.
وثالثها: قوله: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} قال ابن عباس رضي الله عنهما أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم، قال الزجاج: اللفح والنفخ واحد إلا أن اللفح أشد تأثيراً.
ورابعها: قوله: {وَهُمْ فِيهَا كالحون} والكلوح أن تتقلص الشفتان ويتباعدا عن الأسنان، كما ترى الرؤوس المشوية، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته»، وقرئ (كلحون)، ثم إنه سبحانه لما شرح عذابهم، حكى ما يقال لهم عند ذلك تقريعاً وتوبيخاً، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ ءاياتي تتلى عَلَيْكُمْ} ثم إنكم كنتم تكذبون بها مع وضوحها، فلا جرم صرتم مستحقين لما أنتم فيه من العذاب الأليم.
قالت المعتزلة: الآية تدل على أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب لسوء أفعالهم، ولو كان فعل العباد بخلق الله تعالى لما صح ذلك والجواب: أن القادر على الطاعة والمعصية إن صدرت المعصية عنه لا لمرجح ألبتة كان صدورها عنه اتفاقياً لا اختيارياً، فوجب أن لا يستحق العقاب، وإن كان لمرجح، فذاك المرجح ليس من فعله وإلا لزم التسلسل، فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عنه اضطرارياً لا اختيارياً، فوجب أن لا يستحق الثواب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8